المسيحيون العرب: الواقع والدور //أ.د. أسعد السحمراني

المسيحيون العرب: الواقع والدور

أ.د. أسعد السحمراني

أستاذ العقائد والأديان المقارنة في جامعة الإمام الأوزاعي – بيروت

مســــؤول الشـــؤون الدينية في المـــؤتمر الشعبي اللبنـــــــــــــــاني

أمين الشــــؤون الخـــارجية في اتحــــــاد الكتاب اللبنــــــــانييــــــن

تمهيد:

إن المسيحيين العرب الذين يقاربون إثني عشر مليوناً لا ينتمون إلى إطار مذهبي أو كنسي واحد بل يتوزعون في مجموعة كنائس هي:

الروم الأرثوذكس

المارونية

السريان الأرثوذكس

السريان الكاثوليك

الآشورية

الكلدانية

القبطية وبات فيها مع الأرثوذكسية قبطية كاثوليكية وبروتستانتية

الأرمنية الأرثوذكسية

الأرمنية الكاثوليكية

الروم الكاثوليك

والكاثوليك والبروتستانت حديثون نسبياً كانوا بعد الدخول الغربي بأشكال استعمارية أو غير إستعمارية إلى الأرض العربية.

لكن أتباع هذه الكنائس يجمعهم الإنتماء الوطني والقومي العربي، وهم سكانياً واجتماعياً من هذا النسيج كسواهم من المواطنين المسلمين – وهم الأغلبية – أو غير المسلمين، وقد عرف المسيحيون العرب حالات من الإستقرار والإندماج الوطني، وحصلت بالمقابل حالات أدّت إلى توتير أو نزاعات من قبل بعضهم مع بعض مواطينهم ومن نماذج ذلك حركة التمرد التي قادها بندار بالتعاون مع البيزنطيين ضد الدولة العباسية في عام 759 م؛ أو ذلك التعاون غير المبرر لعدد من المسيحيين العرب مع الفرنجة (الصليبيين) الغزاة، وقد ولّد هذا الأمر رغبة بالإلتحاق بالغازي الأوروبي عند هذا الفريق، ومن جهة أخرى انسلخ هؤلاء عن انتمائهم، واهتزت الثقة بهم، وبمقابل هؤلاء كان من المسيحيين من قاتل الفرنجة (الصليبيين) مع أشقائه من العرب، وهذا الفريق التزم خياره العربي، ولم يُستدرج إلى خانة التنكر لهذا الإنتماء لينساق إلى خيار الإنتماء الديني الذي سيقوده إلى خارج حدود أمته ليكون أداة للغزاة والطامعين.

ينطبق الأمر نفسه على مراحل لاحقة خاصة بعد أن كان الإستعمار الأوروبي مع القرنين التاسع عشر والعشرين حيث تفاعل عدد غير قليل من المسيحيين العرب مع مؤسسات الإستعمار الأمنية أو التعليمية أو الإقتصادية، وكان من ذلك دعوات شعوبية ضد العروبة، وحركات إنفصالية تحت ستار الحريات الدينية وحماية الأقليات، وكانت دعوات مشبوهة لاستخدام لهجات محكية بدل العربية الفصحى، أو دعوات لاستخدام الحرف اللاتيني في الكتابة، ناهيك عن تعمد استخدام مفردات أجنبية في الأسماء أو الإتصال اليومي، أو تقديم استخدام الفرنسية أو الإنكليزية في تدريس العلوم، وتقديم هذه اللغات على العربية في مدارس وجامعات ومعاهد مما يتناقض مع الهوية والإنتماء والإلتزام الوطني والقومي، كل هذه الأمور أدّت إلى اهتزاز الروابط والثقة، وإلى وجود ولاءات للخارج على حساب الإلتزام الوطني والقومي العربي.

وبالمقابل كان القسم الأكبر من المسيحيين العرب متمسكاً بعروبته وبوطنيته، فانخرط في مسار المقاومة للإستعمار، وقاوم هذا الفريق من المسيحيين كل أشكال الغزو الثقافي أو العسكري أو الإقتصادي كما أنهم أسهموا في خدمة العربية الفصحى أيما خدمة، والدور المقاوم لهؤلاء المسيحيين العرب لم يتوقف إلى يومنا هذا حيث دور المسيحيين العرب جلي وبارز في مقاومة الإحتلال والإغتصاب لفلسطين، وتضيق الصفحات بأسماء مارست أدواراً ريادية وقيادية في المقاومة في الساحات كافة.

وإذا كان أمر الولاء للمشروع الإستعماري موجوداً في الوسط المسيحي كما أنه استقطب أتباع وملاحق من الوسط الإسلامي إلا أن التصنيف لهذين الفريقين لم يكن واحداً في الرأي السائد بين أهل الأمة:

أ- النظرة للمسلمين الذين التحقوا بالمستعمر على أنهم عملاء، وتمّ نبذهم، ولا يزال التعاطي معهم على هذا الأساس.

ب- النظرة للمسيحيين الذين التحقوا بالمستعمر كانت مختلفة لأن هؤلاء أخذوا دور تسويق الوافد الإستعماري الثقافي ولعب دور المروج والخادم، وتصرف على أنه جزء من هذا الأجنبي، وكان بسبب هذا الفريق حكم من بعض الرأي العام العربي المسلم على المسيحيين العرب عموماً بأنهم موالون للأجنبي، وهنا كانت المشكلة.

وقفة مع تأصيل العلاقات الإسلامية – المسيحية:

إن بناء نسيج إجتماعي مستقر تسوده حقوق المواطنة هو المطلب، ويكون معيار التعامل فيه مع المواطنين وطني دستوري ميثاقي، وأن لا تكون تكيّنات مذهبية أو طائفية أو عرقية أو قبلية، وعلى الصعيد الإسلامي – المسيحي يحتاج أمر العلاقات إلى التأصيل من موقع إسلامي، وهذا التأصيل يؤكد أن الإسلام يقوم المجتمع فيه على قبول الآخر وعلى المجادلة مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وأن أمر القبول الأخروي للناس هو شأن إلهي والدليل على ذلك قول الله تعالى: “إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد.” (سورة الحج، الآية 17) فالأمر لله تعالى من قبل ومن بعد وهو المتصرف بعباده وهو سبحانه الذي يحكم بين الناس يوم القيامة والحساب.

إن هذا التنوع العقدي الذي أخبرت عنه الآية السالفة الذكر يختص فريق ممن ذكرتهم الآية بعلاقة مميّزة مع المسلمين هم المسيحيون (النصارى)، وقد ورد ذلك في الآية الكريمة: “ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون.” (سورة المائدة، الآية 82)

هذه المودة بين المسلمين والمسيحيين أكدتها السّنّة النبوية من خلال محطات كثيرة منها:

1. عندما ضيّق المشركون على المسلمين في مكة المكرمة قبل الهجرة، أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعة من الصحابة من مكة مهاجرين، وأمرهم أن يقصدوا بلاد الحبشة، وكان حاكمها النجاشي مسيحياً، وقال لهم رسول الله عن هذه البلاد وحاكمها: “إنها أرض صدق وفيها حاكم لا يظلم عنده أحد.”

2. الصلح مع نصارى نجران والعهد الذي أعطاه لهم رسول الله، والذي يصلح ميثاقاً عالمياً في العيش الوطني، وتجديده اليوم في الوطن العربي بين المواطنين مسلمين ومسيحيين يؤمن استقراراً ووحدة وطنية راسخة. وفي نص العهد لنصارى نجران ما يلي: “ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم، وملّتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم وعيرهم وبعثهم، وأمثلتهم لا يغيّر ما كانوا عليه، ولا يغيّر حقّ من حقوقهم. وأمثلتهم لا يفتن أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا واقه (قيّم البيعة: خادم الكنيسة: شمّاس) من وقاهيته على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير؛ وليس عليهم رهق، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش. من سأل منهم حقاّ فبينهم النصف (العدل) غير ظالمين ولا مظلومين بنجران. ومن أكل منهم رباً من قبل فذمتي منه بريئة. ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، ولهم على ما في هذه الصحيفة جوار الله، وذمّة محمد النبي أبداً حتى يأتي أمر الله.”

لا أحسب أن صيغة ميثاقية معاصرة تفي بغرض توفير الأمان وحماية حرية المعتقد، وحماية بيوت العبادة مع الشعائر ستكون للمسيحيين أهم من هذه الصيغة الميثاقية، ويكفي أن يتم استحضارها والإستفادة منها لجلاء اللبس في العلاقات، أو ما يعرف بالخوف المسيحي من قبل المسيحيين العرب أو في الشرق عموماً.

ويأتي في هذا السياق من العلاقات الميثاقية الإسلامية – المسيحية واقعة دخول القدس زمن الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والتاريخ يقول: إن البطريرك صفرينوس طلب من أمير الجيش أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بأن يبلغ الخليفة بأن البطريرك يريد المصالحة لكنه لا يسلم مفاتيح المدينة إلا للخليفة.

وافق الخليفة ولما وصل المدينة واستقبله بطريركها تأكدت المودة والعلاقات الميثاقية الإيمانية والوطنية، وأعطى الخليفة ميثاقاً للبطريرك عُرِف باسم: “العهدة العمرية”.

لقد جاء في العهدة العمرية: “بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين عمر أهل إيليا (القدس) من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، ولصلبانهم، مقيمها وبريّها، وسائر ملتها، أنها لا تسكن كنائسهم، ولا شيء من أموالهم ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيليا، معهم أحد من يهود.”

لقد أعطت العهد العمرية أماناً لمسيحيي القدس، واستُجيب لطلبهم بأن لا يقيم في المدينة أحد من يهود. واليوم تصلح العهدة العمرية ميثاقاً إسلامياً – مسيحياً يضاف إليه بند واحد يقرر تفعيل حركة المقاومة من أجل تحرير المدينة من دنس الإحتلال الصهيوني، ولأن القدس حاضنة المقدسات المسيحية والأقصى وما له من مكانة عند المسلمين فإن اللقاء في رحابها يؤسس لدور للكنائس المسيحية العربية وللمسلمين، هو الدور المرجعي على الصعيد العالمي من خلال المسيحية والإسلام.

أما الحديث النبوي الشريف فقد جاء في نصوصه الكثير مما يوجب أن تقوم علاقات راسخة وأصيلة بين المسلمين والمسيحيين. من هذه الأحاديث النبوية الشريفة: “إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمّة ورحماً، وقال الليث: كانت أم اسماعيل منهم.” والحديث: “من ظلم معاهداً أوكلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه.”

هذه النصوص والمواثيق أسست لعلاقات راسخة بين المسلمين والمسيحيين في الوطن العربي، ولو أننا راجعنا المراحل التاريخية لعرفنا بأن بعض حالات التنازع التي حصلت كانت غالباً لأسباب خارجية، وكانت محدودة بالقياس مع المسار الإيجابي في العلاقات.

ما المشكلات؟

إن مبرر طرح هذا العنوان هو ما نسمعه أو نقرأه في الآونة الأخيرة من مخاوف أو أصوات صفارات إنذار تتحدث عن تناقص أعداد المسيحيين في الوطن العربي، وبذلك يكون الأمر محتاجاً إلى تشخيص المشكلات تمهيداً لعلاجها ووضع الحلول الناجعة لها. وعملية التشخيص تبين ما يلي:

1- إن الإستعمار الأوروبي والأمريكي حالياً دفعا إلى توتير العلاقات بين المسلمين والمسيحيين مما شجع حركة هجرة المسيحيين العرب إلى بلاد الغرب وسواها، وكان من مؤثرات الإستعمار ما يلي:

أ- أحكام متسرعة من قبيل من المسلمين على المسيحيين عموماً بأنهم صليبيون، وأنهم يكيدون للإسلام والمسلمين ولا حل إلا بالنزاع والعلاقات المتوترة، ومن هذا الباب تأتي مسألة النظرة بعين واحدة لكل الكنائس دون تمييز بين العقائد واللاهوت والموقف من الإستعمار.

ب- الإستعمار الصهيوني الإستيطاني الإحلالي: وهذا الإستعمار يكيد للمسيحيين والمسيحية كما يكيد للإسلام والمسلمين، ومشروعه العنصري لم يميّز والدليل أنهم في فلسطين المحتلة صادروا كنائس وأديرة كما صادروا مساجد، وهجّروا المسيحيين كما هجّروا المسلمين، وفي القدس اعتدوا على المقدسات على حدّ سواء، وعملوا لتفريغها من سكانها المسيحيين، والمعلوم أن القدس كانت تضم بين سكانها عشية احتلالها من قبل العدو أربعين ألف مسيحي عام 1967، واليوم لا نجد فيها أكثر من أربعة آلاف وخمسماية مسيحي. وقد هُجرت في الأرض المحتلة قرى بأكملها كحال قريتي كفر برعم وأقرت في الجليل.

ج- التدخل الإستعماري كما كان الحال أبّان الحكم العثماني بذريعة حماية الأقليات والسعي الأوروبي – ولاحقاً الأمريكي – لتسويق المشروع الإستعماري من خلال قبيل من المسيحيين منهم من ارتضى هذا الدور فولد ذلك نزاعات وصراعات. كما أن الإستعمار الذي يحكم زوراً على الإسلام بأنه إرهاب أَسْهَمَ في نزوح المسيحيين عن مواطن إقامتهم ليبرِّر مزاعمه، ولا أدلّ على ذلك من حالة العراق بعد الإحتلال الأمريكي حيث كان عدد المسيحيين يوم احتلّوا العراق أكثر من 700 ألف نسمة، واليوم لم يبق إلا أقل من ثلث هذا العدد.

د- عملت قيادات واشنطن المتعاقبة تنفيذاً لمشروعها الشرق أوسطي القاضي بتفكيك الوطن العربي إلى كيانات صغيرة طائفياً، ومن أجل توفير الأمن لكيان العدو الصهيوني الغاصب على تشجيع ظاهرة الكانتونات والفدرلة، والتكينات الطائفية فاخترقت بعض المجموعات السكانية منها مجموعات مسيحية مما أدى إلى نزاعات شهدتها ساحة لبنان أبّان الحرب الفتنة التي تطل برأسها بوجوه متنوعة لكنها جميعاً خلّفت أشكالاً من التوتير والأجواء المشحونة التي تؤثّر على الحضور المتوقع من المسيحيين العرب دوراً وموقعاً.

2- لدواعٍ عديدة متنوعة أبرزها ردة الفعل على الأجنبي وتحميل تعدياته وتحدياته للمسيحيين العرب، أو الجهل والتعصبات الرديئة بتنا نجد حالات عند المسلمين ترفض الآخر المسيحي، ويبرز ذلك من خلال بعض الأقلام أو الخطب، أو من خلال إصدار مواقف تدعو إلى الإنفصال اجتماعياً وذلك بتوظيف نصوص وأحكام في غير وجهتها الصحيحة.

3- اعتماد بعض المسيحيين سابقاً وسيطاً لترحيل الفكر الغربي والإقتصاد والتعليم وسوى ذلك، إلى الأمة العربية واليوم لم يعد لهذا الوسيط المسيحي هذا الدور مادامت العلاقات مفتوحة مع المسلمين وقد بات هناك وسطاء من المسلمين جنّدوا أنفسهم لخدمة الأجنبي والمستعمر كما أن اليسر في الإتصال خفف هذا الدور إن لم نقل أنه ألغاه. هذا بالإضافة إلى الحاجة الغربية للثروات العربية وأبرزها النفط وهذا ليس بيد المسيحيين العرب كي تكون لهم أهمية عند الغربي بسببه.

4- الحرب الفتنة التي كانت في لبنان وماجرياتها خاصة من خلال الصراع بين القوى المسيحية وفي المناطق المسيحية أسهمت بدفع مئات الألوف إلى الهجرة طلباً للأمان أو العمل، وكان ما عُرِف باسم جيش لبنان الجنوبي بقيادة سعد حداد وبعده أنطوان لحد صاحب دور في ترك عدد كبير من مسيحيي الجنوب لقراهم وبلداتهم بسبب ولائهم للعدو الصهيوني، كلّ هذا أثّر على الحضور المسيحي في لبنان، وهذا يستنتجه أي متابع إذا قارن بين سجلات الأحوال الشخصية وبين عدد المسيحيين المقيمين فعلياً في لبنان.

من أجل دور أفضل وواقع مستقر:

إن المسيحيين العرب جزء لا يتجزأ من الأمة، وهم أصليون في النسيج القومي العربي، والأرض العربية مهد المسيحية ومنطلق دعوتها لذلك لا يمكن لأحد أن يتصور مجتمعاً عربياً بلا مسيحية ومسيحيين، كما أن الإسلام الذي أقرّ التنوع والتعددية باعتبارهما سنّة كونية، ولأن الأغلبية العربية مسلمة فإن هذا الإسلام بسماحته يؤمن مناخ الإستقرار لغير المسلمين خاصة الأقرب مودّة المسيحيون.

تأسيساً على ما تقدم يحتاج الإستقرار الإجتماعي والدور المنشود للمسيحيين في ظل هذا الواقع المحلّي والدّولي إلى أمور كثيرة منها:

1- أن يتصرف المسيحيون العرب على أساس الوقع الذي ينطق بأنهم عرب ينتمون إلى أمتهم لغة وحضارة وثقافة وأملاً ومصيراً، ولا يصح أن يكون التصرف وكأنهم جالية أو أقلية فهم أبناء الأمة، والواجب يقضي أن يتوقف بعض من يظنون أنهم جالية هذا المفهوم الخاطىء، وقد وجهت إلى هذا المرجعيات الدينية المسيحية المعاصرة.

وممن وجهوا إلى هذا الموقف الوطني والقومي العربي، النص الذي أذاعه الباب السابق يوحنا بولس الثاني خلال زيارة لبنان في شهر أيار / مايو 1997 تحت عنوان: “رجاء جديد للبنان”؛ ومما جاء فيه: “إن الكنيسة الكاثوليكية منفتحة على الحوار والتعاون مع المسلمين في لبنان. وتريد أن تكون منفتحة على الحوار والتعاون مع مسلمي سائر البلدان العربية، ولبنان جزء لا يتجزأ منها. وفي الواقع إنّ مصيراً واحداً يربط المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة. وكل ثقافة خاصة لا تزال تحمل طابع ما رفدتها به على الصعيد الديني وغير الديني الحضارات المختلفة التي تعاقبت على أرضهم. ومسيحيو لبنان وكامل العالم العربي، وهم فخورون بتراثهم، يسهمون إسهاماً ناشطاً في التطور الثقافي.”

وجاء فيه كذلك: ” بودّي أن أشدّد، بالنسبة إلى مسيحيي لبنان، على ضرورة المحافظة على علاقاتهم التضامنية مع العالم العربي وتوطيدها. وأدعوهم إلى اعتبار انضوائهم إلى الثقافة العربية، التي أسهموا فيها إسهاماً كبيراً، موقعاً مميّزاً، لكي يقيموا، هم وسائر مسيحيي البلدان العربية، حواراً صادقاً وعميقاً مع المسلمين. إن مسيحيي الشرق الأوسط ومسلميه، وهم يعيشون في المنطقة ذاتها، وقد عرفوا في تاريخهم أيّام عزّ وأيام بؤس، مدعوون إلى أن يبنوا معاً مستقبل عيش مشترك وتعاون، يهدف إلى تطوير شعوبهم تطويراً إنسانياً وأخلاقياً.”

هذه الدعوة إلى إندماج المسيحيين في نسيج أمتهم العربية من قبل الكنيسة الكاثوليكية جاءت مثلها دعوة من قبل المرجعية الأرثوذكسية المتمثلة بالبطريرك أغناطيوس الرابع بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، وقد ورد ذلك في كتاب حوارات (1979-1988)، حيث قال البطريرك: “قد يكون علينا، كمسيحيين عرب، أن نسعى إلى أمر، إذا لم نقم به نحن فلن يقوم به أحد، وهو العمل بجدية هائلة لترجمة المسيحية للعالم العربي، لأن المسيحية هي حتى في العالم العربي لا تزال متقوقعة فكرياً في نظري. فلا نزال، يخاطب المسيحي المسيحي، كما لو كان يعيش في زمن سابق من التاريخ. هذا يناقش ذاك عن عقيدة في القرن الرابع أو الثامن أو أي شيء من هذا القبيل، قلت إننا متقوقعون لأننا لم ننتبه، أو كأننا غير مدركين للحدث الروحي الهائل الذي يتمّ حولنا، وهو حدث الإسلام. فكأننا خلقنا لا لكي يخاطب الواحد منّا الآخر، بل لكي يخاصمه. ولم نرَ بعد أن رسالتنا هي في هذه المنطقة التي فيها تمّ الإعلان عن هذه الديانات، وأن من واجبنا أن نتمكن من مخاطبة المسلم… حاجتنا قبل كل شيء في هذه المنطقة، إلى ترجمة المسيحية بتعابير عربية، بتفكير في العالم العربي من خلال معطيات عربية.”

ويكمل البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم: “أنا أقصد أنه يجب أن نتوصل إلى أن تكون هناك مسيحية المخاطب فيها هو شخص عربي. مسيحية تخاطب العقل العربي والثقافة العربية واللغة العربية.”

هذه التوجيهات الصادرة من مرجعيات أرثوذكسية وكاثوليكية تحتاج إلى النقل إلى حيّز التطبيق، وأن يعمل المسيحيون العرب مع مرجعياتهم على الإلتزام بها لأنها توفر المناخ المناسب لعلاقات إسلامية مسيحية مستقرة في الوطن العربي.

2- أما المسلمون وهم المكوّن الرئيس لسكان الأمة العربية فإن مهماتهم عديدة ومتنوعة في الشأن المتعلق بالمسيحيين العرب، وهذه المهام يمكن تحديدها بما يلي:

أ- العودة إلى مرجعية النص القرآني والسيرة النبوية، وبعدهما الفقه، ومسار التعامل الإسلامي – المسيحي منذ بدأت مسيرة الإسلام في هذا الكون مع رسول الرحمة والسماحة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن تحديد المصدر والمرجعية يشكل العامل الحاسم في ضبط العلاقات، وفي كونها تصبح على أسس شرعية سليمة بعيداً من حالات الفهم المغلوط، أو الغلو، أو الإنطلاق من ردات فعل غير محمودة النتائج.

ب- لقد جاء في الآية القرآنية: “ولا تزر وازرة وزرة أخرى”، وكان الإمام عبد الرحمن الأوزاعي قد خاطب الوالي العباسي على بعلبك في عصره مذكراً بالآية، ومعلقاً بقوله له: “كيف تأخذ العامة بذنوب الخاصة”. وهذا ما يحتاجه الواقع اليوم. وإذا كان بعض المسيحيين العرب قد تعامل مع الأجنبي وانتمى إليه على شكل عميل وتابع على أساس ديني مسيحي أو كان الشخص من نهّازي الفرص، وممن يقدمون مصالحهم الخاصة، فإن الأمر لا يستدعي أن تكون النقمة على عامة المسيحيين العرب بسبب ذنوب خاصة، وهؤلاء الخاصة المتنكرين لأمتهم وواقعهم ومجتمعهم يماثلهم بعض من المسلمين ممن تنكروا لانتمائهم القومي العربي والديني الإسلامي وارتموا في أحضان الأجنبي الطامع بأمتهم.

ج- إن قبيلاً من العرب المسلمين ومنهم مرجعيات فكرية أو سياسية أو إعلامية يحمّل الكنائس العربية ما يرى أن تبعته على قسم من المسيحيين الأوروبيين أو الأمريكان أو سواهم دون أن يدفع نفسه إلى الوقوف على الحقيقة. ففي الغرب مذاهب مسيحية وكنائس وفرق (sectes) تتستر بالمسيحية وليس فيها من المسيحية شيء، وقسم تصهين وبات في موقع البوق للعنصرية الصهيونية وشريكاً في الإجرام والإحتلال والعدوان، وفي هذا يدفع ثمن العدوان المسيحيون العرب كما الحال بالنسبة للمسلمين العرب، لذلك يكون الصواب أن يتمّ الفصل بين النظرة إلى بعض الغربيين من أتباع مذاهب كنسية معتبرة أو فِرق لم يبق في فكرها شيء من المسيحية وبين مسيحيين غربيين منصفين، وبشكل أخص بينهم وبين المسيحيين العرب فهم مع المسلمين في الهمّ عرب، وفي المصير عرب، ومن الأدلة على ذلك حال التهجير من فلسطين المحتلة على يدي العدو الصهيوني في الغاصب، حيث طال التهجير مسلمين ومسيحيين، وشمل العدوان مقدسات وأوقافاً وبيوت عبادة للجميع.

د- إن بناء علاقات سليمة تؤسس لشبكة نسيج اجتماعي عربي وحدوي قومياً، ووحدوي في كل بلد عربي يحتاج إلى حوار إيجابي بين المرجعيات الإسلامية والمسيحية لبيان كل ما هو ملتبس في العلاقات، ووضع الأسس التي تقوم على ما أقره الإسلام بشأن التنوع، وفيما يخصّ المسيحيين، وفيما ذهبت إليه المرجعيات المسيحية المعاصرة إن من خلال النص أو سائر المواقف التي ورد بعضها سابقاً في هذا البحث وغيرها كثير.

وأن يتبع هذا الحوار العربي الإسلامي – المسيحي خطوة أخرى هي العمل من أجل دور مسيحي عربي في مخاطبة أوروبا والغرب، وعموم المسيحيين غير العرب كي يتمّ تعريفهم بمخاطر الصهيونية وكيان العدو الغاصب لفلسطين، ومقدار ما تتعرض له المقدسات المسيحية والقدس من عدوان صهيوني منذ اغتصاب فلسطين.

خاتمة:

إن دوراً للمسيحيين العرب يستلزم بالدرجة الأولى تطبيق القاعدة القرآنية بين المسيحيين والمسلمين: “لتعارفوا”؛ وذلك بأن تتم صياغة كتب تربوية تعالج موضوع القيم المشتركة (الأمانة – الصدق – العفة – برّ الوالدين… الخ) تتضمّن نصوصاً مسيحية وإسلامية ليكون المنطلق للقاء في إطار شبكة العلاقات الإجتماعية عربياً مؤسساً على القيم الناظمة لمسار حركة المجتمع العربي الحضاري والتزاماً بالهوية الثقافية للأمة.

والأمر الآخر المطلوب هو تنشئة الأجيال على أساس من حقوق المواطنة وقبول الآخر بين المسلمين والمسيحيين مع إبراز المشترك قيمياً ووطنياً، وتحديد برنامج عمل يغرس التدين لا الطائفية، والوحدة لا الفئوية. وأن يعالج كل فريق حالات الغلو والتطرّف داخل صفوفه، وأن يتصدّى لها بالوسائل المناسبة فكرياً وإعلامياً وتربوياً.

المسيحيون العرب كما المسلمون العرب مطالبون أن ينخرطوا كلياً في المشروع القومي العربي الساعي للنهضة من خلال الحرية والتقدم، ورد التحديات، وتحرير الأرض والمقدسات، وأن يعمل الجميع لإسعاد الإنسان فهو الرأسمال وهو المقصد وتكريم الإنسان غاية مشتركة عند المسيحيين وعند المسلمين فهذا يعزز الدور المسيحي عربياً، وبعد ذلك يكون المشروع الحضاري العربي دولياً لوقف الإستباحة وردع العدوان، ونشر قيم العدل والخير والحق بدل ما تنشره المدارس المادية من ظلم وشر وباطل.

فكرة واحدة على ”المسيحيون العرب: الواقع والدور //أ.د. أسعد السحمراني

  1. محمد الأسواني

    من يحرر الإنسانية من الأسر

    القول المأثور في تاريخ العرب، رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. ونذكر بأنه ليس هناك خير أو شر على الإطلاق وأيآت الذكر الحكيم تؤكد ذلك: (بسم الله الرحمن الرحيم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم وعسى أن تكرهو شيئا وهو خيرا لكم) .

    إن البشر في عمومهم يعيشون حبيسي فكرة أو أفكار وبسبب ذلك من الممكن يصبحون أسرى لتلك الفكرة أو ذاك والفكر قد يصبح هاجسا ثم وهما كبيرا ليس لديه من مستقر و في ظل الخوف يحبس الإنسان نفسه في سجن الوحشة وهناك من الفكر ماسمي بالخيالي حيث يأخذك بعيدا عن الواقع والحال الى المحال وإذا أصبح ذلك الفكر فحواه الظن والتشكك فيترتب عليه فقدان الأمآن وحينها يرى الإنسان كل شئ عدو لدود وإن إختلف معه الآخرون قليلا سواء في اللون أو العقيدة أو اللسان وكلما ذلك يزيد من إحساسه بالعزلة لأنه يرى ضياع كل ما يحتاج اليه من مآكل وملبس أو حتى مسكن يأويه وقد يحبس الإنسان في تفاصيل الخوف في كونه لايجد مكانا يدفن فيه وإن دفن قد تسرق جثته ويتاجر بها أو قد تبعثر عظامه مإذا تم الإستلاء على مدافن الموتى بحجة توسيع رقع البناء للأحياء وهكذا تتوالد أفكار الخوف التي من الممكن بها تحول الإنسان من ضحية حسب أوهامه إلى ظالم طاغي معتدي وبالتالي يصبح له مفردات جديدة يسأنس بها فحواها الأنانية أي حب الذات ويدخل في قناعاته مفهوم لا يقبل المناقشة الا وهو أما أنا أو غيري في هذه الحياة وهكذا يرسخ في عقله إنه من الجنس الراقي وكل من دونه حقراء لا يستحقون إلا أن يكونوا عبيدا ثم يزداد غرورا ويتملكه الإحساس بعظمة الخالق الأوحد يأمر فيطاع ويأمر فيهلك الآخرين إلى الأبد سواء بشر أو حشر أو حجر .

    أمامنظور الأسر في ظل فكرة الأمل الغير محدود تعمق في الإنسان عدم القناعة فيصبح أسيرا للجشع والنهم في الإحتكار والإمتلاك بكل ثمن وأي ثمن وهكذا يتعدى كل ماهو نافع فيلحق الضرر بالماء والهواء والكلأ.

    أما حبيس فكر الإستغلال يسيطر عليه الشعور بأن يجعل ما في أيدي الناس ملكا له كي يسيطر عليهم فنجد فكرة الإستحواز تتملكه وبذلك يسعى لإحتكار الماء والفضاء تارة بالترغيب والخداع وتارة بالتخويف بما يمتلك من من أسلحة مدمرة وحينها لا يظمأ من هو خاضع له وهكذا يحرم التنفس من ليس تابع له، أما الكلأ، فنجده لا يسمح لغيره بأن يزرع أو ينتج وهكذا يحاصر مصادر الغذاء سواء للإنسان كانت أو الحيوان ومن بعدها يعطي أو يمنع وبذلك يصبح الإنسان أسير لفكرة إحتكار الأشياء، ولذا نقول بأن سيطرة فكرة الأمآني اللا نهائية تهوي بالإنسان إلى أعماق الشر وفي غمرة الأمآني ينسى الإنسان إنه قد يصاب بالمرض أو يعجز و يموت فجأة فيترك كل أفكاره في مزبلة التاريخ حيث جعلته أسيرا ومحبوسا في سجن الكراهية والخوف والجشع وبسبب تلك الأفكار يحرم نفسه والآخرين من السعادة والطمأنينة ومن يفعل خيرا أو شرا سيجده بين يديه، وصدق قول الحق: (بسم الله الرحمن الرحيم، ومن يفعل مثقال ذرزة خيرا يرى ومن يفعل مثقال ذرة شرا يرى)، والسؤال الذي يبحث عن إجابة كيف يحرر الإنسان من الأسر؟

    وقد يرى البعض في الإيمان بالخالق ملازا فإن عاد الرشد للإنسان فإنه يدرك بشريته وليس خالق وإن إدعى في غفلة وإنه مؤتمن وليس مالك وإن كثر أو قل بين يديه وإنه في حياة الدنيا عابر سبيل.

أضف تعليق