أين أنت أيها التـنـوير؟ بقلم /د.أحمد الخميسي

أين أنت أيها التـنـوير؟

أحمد الخميسي
من كثرة ما صرت أسمعه عن التنوير وما أقرأه عنه من مقالات وملفات في مجلات وصحف ثم ما أشاهده من برامج تـنـويـرأصبحت أظن أن ثمة شخصا يدعى “ تنوير” ربما أصادفه في الطريق فأستوقفه لأطمئن على أحوال وأسأله : ما بتجيش ليه يا تـنـوير؟ . وعلى كثرة تجوالي في المدينة فإن ” تنوير ” لم يظهر أبدا ، وعلى العكس وجدت أن أوضاعنا في مجال الوعي العام تزداد تدهورا من سنة لأخرى ، وتتأجج الطائفية ، وتنتشر الخرافات ، والدروشة ، ونظرة التحقير للمرأة ، واعتبار الحياة موتا نحو حياة أخرى ، كما تتعمق روح الازدراء للفنون والثقافة أو على الأقل اللامبالاة بكل ثمار الفكر والإبداع ، ويتوغل اليأس في النفوس. وال سبب الأول في التنوير عندنا بلا أثر أن أغلب المقصود به هو مواجهة التيارات السلفية وما تخلقه من تطرف وإرهاب. ولاشك أن تلك المواجهة التي يغطيها التنوير تشكل قاسما مشتركا بين أمن الناس وأمن الحكومة، لكن ماذا عن التنوير عندما تتعارض مصالح الناس والحكومة ؟! عندما يرى الناس خلافا للحكومة أن الأمر لا يتعلق فقط بحوادث الإرهاب الفردي الصغيرة المتناثرة ، ولكن بالإرهاب الأمريكي الضخم المنظم في العراق وفلسطين المدعوم بصمت الحكومات العربية؟ لماذا لا يمتد التنوير إلي تلك القضايا؟ هل هو تنوير حقا أم مجرد دعم نظري للحكومة في أزمتها ؟ . هذه الانتقائية في مكافحة الإرهاب هي التي ألقت بظلال الشك على دور التنوير وأحالته إلي مجرد شمعة صغيرة على باب الحكومة كلما انطفأت أشعلها كتاب الدولة – مشكورين – بحزمة مقالات. لأن السؤال الذي يدور في بال الجميع هو : لماذا لا يقوم أولئك المفكرين بتنويرنا فيما يتعلق بالإرهاب الإسرائيلي ؟ أم أن هناك إرهابا مرفوضا وآخر مقبولا ؟ .

لا يظهر للتنوير أثر أيضا لأن حركة التنوير التي حاصرت نفسها افترضت أن الناس يموتون شوقا إلي الكتب في مجتمع تتجاوز الأمية فيه نسبة أربعي ن بالمئة ، وليس أن الناس يموتون شوقا إلي المسكن والعلاج وزيادة الرواتب ! وبذلك عزلت الحركة نفسها عن الاشتباك بقضايا المجتمع الحقيقية ، فأسقطها الناس من حسابهم . فليس ثمة تنوير خارج إطار البحث عن العدل والكرامة، وليس ثمة تنوير مطلق ، ومعلق في الفراغ ، يشرح للناس مبادئ التفكير السليم . وقد تخلفت حركة التنوير حتى عن مشروع طه حسين للتنوير الذي قام على أساس أن التعليم وليس نشر الكتب هو مستقر الثقافة والتنوير ، وفي تخلفها ذلك تتشبث الحركة بإعادة إعادة إحياء التراث الفكري لرواد التنوير الأوائل، أي إعادة طباعة كتب علي عبد الرازق ، والشيخ محمد عبده ، وسلامة موسى ، وطه حسين ، وصبحي وحيدة ، والعودة إلي آباء التنوير كالطهطاوي ، وزكي مبارك ، وغيرهما. ولا شك أن أعمال كل أولئك المفكرين الكبار تحمل قسمات عامة مازالت صالحة لكي يستفيد منها الوعي العام . لكن عظمة تلك الأعمال لم تكن في أنها دعوة عامة للتنوير ، بل في كون تلك الدعوة قد اشتبكت في حينه بقضايا عصرها المحددة ، وبالكفاح ضد الطابع المحدد لسلفية ذلك العصر. وقد اختلف الطابع الرجعي لتلك السلفية في وقتنا اختلافا كبيرا عما كان الحال عليه في زمن على عبد الرازق مثلا . فقد كان التنوير عهد على عبد الرازق يعني تحديدا التصدي لفكرة الخلافة الإسلامية ، فهل أننا ما زلنا بحاجة الآن للتصدي لتلك الفكرة ؟ أم أن التيار السلفي قد جدد وغير أثوابه ومطالبه ؟ . ويعلم الجميع أن التنوير في عهد رفاعة رافع الطهطاوي كان يعني تحديدا مواجهة وزلزلة فكرة الحاكم الفرد المستبد بمشروع برلماني ، ولهذا قام رفاعة الطهطاوي بترجمة الدستور الفرنسي . وبذلك كان التنوير مشتبكا بقضايا عصره المحددة ، وليس مطلبا قاصرا على التصدي لحوادث فردية ، كما أنه لم يكن أبدا مطلبا عاما معزولا عن حاجات التطور. إن التنوير ينبغي أن يكون خطوة للأمام تستوعب المتغيرات، وليس خطوة للخلف باجترار مهام قديمة عالجها التنوير فيما مضى . فلكل مرحلة من مراحل التنوير مهامها المحددة ، التي تبرز في مواجهة واقع معين . أما حين يكون التنوير مجرد ” خدمة ” للحكومة فمن الطبيعي أن تبحث عن ” تنوير ” فلا تجد له أثرا ، ومن الطبيعي أن يزداد الوعي العام تدهورا من سنة لأخرى . مع ذلك ثمة أمل أن يصبح التنوير عملية متكاملة وأن يجد طريقه إلي الناس ، ليس بفضل المثقفين لكن رغما عنهم !

***

Ahmad_alkhamisi@yahoo.com

أضف تعليق