“النثر الفنى فى القرن الرابع” لزكى مبارك بين الأصل الفرنسى والطبعة العربية/بقلم د. إبراهيم عوض

“النثر الفنى فى القرن الرابع” لزكى مبارك بين الأصل الفرنسى والطبعة العربية

بقلم د. إبراهيم عوض

أستاذ بكلية الآداب- جامعة عين شمس- القاهرة
من المعروف أن بعض الدارسين المصريين الحاصلين على درجة الدكتوريّة من جامعات أجنبية، قد تُرْجِمَتْ رسائلهم العلمية إلى العربية إما بأيديهم أو بأيدى غيرهم. ومن هذا الصنف الأخير رسالة طه حسين عن ابن خلدون، إذ ترجمها محمد عبد الله عنان من الفرنسية، ورسالة د. محمد حسين هيكل، التى ترجمها ابنه أحمد هيكل من الفرنسية أيضا، ورسالة د. عبد القادر القط، وقد نقلها ابن أخيه د. عبد الحميد القط من الإنجليزية. أما الصنف الأول فأذكر منه د. محمد عبد الله دراز صاحب رسالة “الأخلاق فى الإسلام”، ود. محمود رفعت الشهابى، الذى نقل رسالته الحاصل بها على الدكتورية من جامعة أكستر فى موضوع “زكى مبارك- دراسة نقدية”، وكذلك كاتب هذه السطور الذى حصل على الدكتوريّة من جامعة أوكسفورد فى موضوع “النقد القصصى فى مصر منذ بداياته حتى 1980م”، وترجم رسالته غبّ حصوله على الدرجة المذكورة فى أواخر يوليو 1982م.

ويدخل د. زكى مبارك ضمن هذا الصنف الأخير برسالته التى أحرز بها درجة الدكتورية من جامعة باريس سنة 1931م، وعنوانها “La Prose Arabe du IVe Siècle de l’ Hégire”، وهى الرسالة التى حصل بها على الدرجة المذكورة للمرة الثانية، ثم شفعها برسالة أخرى حصل بها للمرة الثالثة على ذات الدرجة مستحقا بكل جدارة أن يطلق عليه: “الدكاترة زكى مبارك”. وقد نشرتْ له رسالتَه الفرنسيةَ المكتبةُ الشرقية والأمريكية بباريس فى نفس العام الذى أحرزها فيه، ثم نقلها هو بنفسه إلى لغة الضاد ناشرًا النسخة العربية فى مصر من خلال المكتبة التجارية بالقاهرة بعنوان “النثر الفنى فى القرن الرابع” عام 1934م. وفى البحث التالى مقارنة بين الأصل الفرنسى لتلك الرسالة وطبعتها العربية.

وأول شىء نرصده فى هذه المقارنة هو التفاوت الكبير بين عدد الصفحات فى الأصل وفى النسخة العربية، إذ بينما لا يتجاوز الأصل الفرنسى 290 صفحة إذا بالطبعة العربية تزيد على 750، مع العلم بأن عدد كلمات الصفحة الفرنسية يقل عن نظيره فى الصفحة العربية. كما أن فى بعض مواضع النسخة العربية نقدا شديدا بل تهكما واخزا موجها إلى المستشرقين، وهو ما تخلو منه الطبعة الفرنسية. وفضلا عن هذا وذاك هناك أحداث وأمور ومراجع فى النسخة العربية لم تكن قد حدثت أو ظهرت قبل صدور الأصل الفرنسى، كما هو الحال مثلا فى كتابَىْ “ضحى الإسلام” و”نقد النثر”، اللذين ظهرا عام 1933م. ليس ذلك فقط، بل إن عدد المراجع فى ذيل النسخة العربية يزيد بنسبة 50% عنه فى النسخة الفرنسية، علاوة على ما قاله د. زكى مبارك نفسه من أن فى النسخة العربية حرية أكبر وتفصيلات أكثر، وإنْ حدَّد الاختلاف بين النسختين بأنه “اختلاف قليل”، وهو ما أخالفه فيه بقوة، وبخاصة أن الاختلافات المشار إليها لا تقتصر على ما ذكره.

ومن الفروق بين النسختين أن العنوان فى الأصل الفرنسى أدق، فهو يحدد النثرَ المدروسَ بأنه “النثر العربى”، كما يحدد القرنَ موضوعَ الدرس بأنه “القرن الرابع الهجرى” لا “القرن الرابع” فقط كما فى الطبعة العربية التى قد ينصرف فيها ذهن القارئ الخالى من الأمر إلى القرن الرابع الميلادى. كذلك فقد أعاد المؤلف تقسيم الكتاب من جديد، فبعد أن كان كتّاب القرن الرابع فى الأصل الفرنسى مذكورين جميعا مرة واحدة دون تصنيف، اللهم إلا كتّاب المقامات وكتّاب الأخبار والأقاصيص، نجدهم فى النسخة العربية قد صُنِّفوا إلى كتّاب النقد الأدبى، وكتّاب الآراء والمذاهب، وكتّاب الرسائل أو العهود، علاوة على كتّاب الفئتين السابقتين. ثم إن المؤلف لم يكتف بهذا، بل أضاف إلى كل طائفة من هذه الطوائف كتّابا آخرين لم يتناولهم بالدراسة فى الأصل الفرنسى. ليس هذا فحسب، بل هناك كتّاب دُرِسوا فى الطبعة العربية فى أكثر من موضع رغم أنهم فى الأصل قد لزموا جميعا مكانا واحدا لم يريموه.

وكما أضاف المؤلف إلى الطبعة العربية من كتابه كتّابا لم يكن لهم وجود فى النص الفرنسى، كذلك أضاف إلى الطبعة العربية عددا من الموضوعات لم يسبق له أن درسها فى ذلك الأصل، وهى الموضوعات التى تضمنتها فصول “الفكاهات” و”النسيب” و”الإخوان يات”. وفى المقابل نجد أن فصل “L’Éloquence au IVe Siècle” وكذلك الفصل الخاص بالخاتمة “Conclusion” قد حُذِفا معا من الطبعة العربية. وبالمثل هناك هوامش كثيرة أضيفت للطبعة العربية لم يكن لها وجود فى الأصل الفرنسى، وتتضمن هذه الهوامش شرحا لبعض الألفاظ الصعبة أو إجابة على بعض الأحاجى التى ضمّنها بديع الزمان مقاماته… إلخ. ومن الفروق كذلك ما دأب عليه المؤلف فى بداية كل فصل من فصول الأصل الفرنسى من ذكرٍ لرؤوس الموضوعات التى يتناولها فى ذلك الفصل، مما لم يجر عليه فى النسخة العربية، اللهم إلا فى فصول “نشأة النثر الفنى” و “التوابع والزوابع” و”النقد الأدبى عند ابن شُهَيْد” و”أبو عامر بن شُهَيْد” ليس إلا.

وثمة فصول وقع عند نقلها إلى العربية تصرف كبير بالزيادة والحذف، والتقديم والتأخير، والإيجاز والتفصيل، كما فى فصل “Les Origines de la Préciosité”، الذى أصبح عنوانه بالعربية “نشأة النثر الفنى”، والفصل الخاص بالمحسِّن التنوخى الذى يخلو أصله الفرنسى من السطور التمهيدية عن ماسينيون وسنوك، ومن الكلام فى صلبه عن مارجليوث وماسينيون، وكذلك التحليلات المطولة والنصوص المقتبسة التى تشغل ح يزا كبيرا فى النسخة العربية. ولهذا السبب كان التفاوت الكبير بين عدد صفحات ذلك الفصل هنا عنها هناك، فهو فى الأصل الفرنسى لا يبلغ سبع صفحات، على حين أنه فى الطبعة العربية يتجاوز الاثنتين والعشرين صفحة. ومن ذلك أيضا أن القصة التى تدور حول أم آسية فى النص الفرنسى، وتقع فى أربع صفحات، قد اختفت نهائيا من النسخة العربية وحلت محلها حكايات أخرى لا وجود لها فى الأصل.

ومن أهم الأسباب التى أدت إلى طول النسخة العربية أن الدكاترة زكى مبارك كان يكتفى، فى الأصل الفرنسى فى كثير من الأحيان، بتلخيص ما يريد الاستشهاد به من كتابات أدباء القرن الرابع الهجرى أو بمجرد الإشارة له، أما فى النسخة العربية فلم يكن يرضى بأقل من إيراد النص كاملا. كما أنه فى الأصل الفرنسى كان يلجأ أحيانا إلى تقليص النص المستشهد به، على خلاف الحال فى النسخة العربية، إذ كان يطيل عندئذ الاقتباس من ذلك النص. وبالإضافة إلى هذا هناك عدد من الموضوعات والإشارات فى النسخة العربية يخلو منها الأصل الفرنسى. مثال ذلك الإشارة إلى حذف الشيخ محمد عبده طائفة من مقامات بديع الزمان لما فيها من الصراحة المفرطة فى تصوير الشهوات، وكذلك الإشا رة إلى مناقشة دارت بين زكى مبارك ومسيو مرسيه حول ما ذكره الحصرى صاحب “زهر الآداب” من أن بديع الزمان إنما عارض بمقاماته ابن دُرَيْد فى أحاديثه الأربعين ولم يخترعها اختراعا، وتعجُّب المستشرق الفرنسى من إجماع الناس مع هذا على أن بديع الزمان هو منشئ فن المقامات. كذلك فإن النص العربى قد يتضمن كلمة هنا أو عبارة هناك لا وجود لها فى الأصل الفرنسى مما ضربتُ عليه بعض الأمثلة فى البحث المقدم للمؤتمر.

على أن هناك من الناحية الأخرى أشياء موجودة فى الأصل الفرنسى، لم يعد لها وجود فى النسخة العربية. من ذلك حديث خُنَافِر الحِمْيَرىّ الذى ينيف على الصفحتين، وكذلك الكلام عن عادة التعجيل بدفن الميت والمصائب التى يمكن أن تقع من جَرّاء ذلك، إذ من الممكن أن يُدْفَن إنسان وهو لا يزال حيا، بناءً على ظن أهله أنه قد قَضَى نحبه وانتهى أمره. لكنْ من العجيب أن نجد زكى مبارك فى الأصل الفرنسى يشير بملء فيه إلى اعتقاده فى أن أحدا لم يسبقه إلى القول بأن أخبار عمر بن أبى ربيعة هى أخبار غير حقيقية وأنها إنما وُضِعَتْ وضعا لتفسير شعره، ثم نفاجأ بأن هذه الإشارة قد اختفت من الأصل العربى. ذلك أن زكى مبارك ليس ب الشخص الذى يحاول التضاؤل فى مثل هذا الموقف ولو على سبيل التصنع، فقد كانت فيه مباهاة حادة أثارت عليه كثيرا من العداوات، وإن كنت أنا من الذين يُعْجَبون فى كتاباته بهذه المخطرانية لأنها تخلو من العنجهية السمجة ولأنها تظهر فى ثوب فنى جذاب.

ولكن ما الأسباب التى أدت إلى هذه الاختلافات الهائلة بين الأصل الفرنسى للرسالة وطبعتها العربية، مما بدت معه وكأنها إعادة تأليف لا ترجمة؟ يشرح المؤلف ذلك فى المقدمة بأن فى النسخة العربية تفاصيل لا يحتاج لها أهل الغرب احتياج المشرقيين، كما أنها تتمتع بحرية أكبر لأن الأصل الفرنسى كُتِب لغرض علمى بحت وتحت إشراف أستاذين صارمين، أما النسخة العربية فوُضِعَت، كما يقول، بغرض التعليم والتثقيف. لكن لا يمكن أن يكون ما ذكره الدكاترة زكى مبارك هو كل الأسباب التى نتجت عنها تلك الاختلافات الهائلة بين النسختين، وإلا فما دخل الحرية والتقييد مثلا فى الفصول الكاملة التى أضيفت إلى الطبعة العربية مما نصصنا عليه آنفا؟ لا شك أن الكتاب فى ثوبه العربى قد أضحى أقرب ما يكون إلى الشمول فى تغطية الموضوع الذى يتناوله. كذلك ليس من السهل القول بأن القراء الغربيين (أى المستش رقين) يستطيعون أن يستغنوا عما أضافه زكى مبارك من فصول عن بعض كتّاب القرن الرابع ممن لم يتناولهم فى الأصل الفرنسى كعبد الكريم أو الآمدى أو الحاتمى أو ابن مسكويه، أو عن التوسع الذى اعترى بعض الفصول فى الطبعة العربية كما هو الحال فى فصل “أطوار السجع” مثلا. إن السبب الحقيقى فى مثل هذه الزيادات هو تنبه المؤلف، بعد أن هدأت أعصابه وزال توتره بحصوله على الدرجة العلمية، وبعد أن اتسعت معارفه وازدادت قراءاته فى التراث الأدبى الذى خلّفه لنا كتّاب القرن الرابع الهجرى، إلى أن هناك من الكتّاب والموضوعات ما لا يقل أهمية عما سبق له الكتابة عنه فى الرسالة، فضلا عما اعترى بعض آرائه من تطور وتعديل بمرور الوقت.

كذلك هناك أشياء وقعت أثناء مناقشة الرسالة لم يكن من المستطاع بطبيعة الحال إثباتها فى النص الفرنسى، إذ كانت قد كُتِبت وانتهى الأمر. أما مهاجمة المؤلف لآراء بعض أساتذته من المستشرقين فلم يكن من اللياقة على الأقل أن يفكر فى إثباتها فى رسالة يُعِدّها تحت إشرافهم، وهذا إن تسامحوا هم أصلا فى ذلك، وهو ما أشك فيه. وينضاف إلى هذا ما جَدّ خلال السنوات الفاصلة بين كتابة الأصل الفرنسى وكتابة النسخ ة العربية من صدور كتب جديدة أو ظهور آراء فى الأدب والنقد لم تكن معروفة من قبل ورأى الدكاترة زكى مبارك أنه ينبغى التعرض لها ومناقشتها. وإذا كان المؤلف قد ذكر فى فاتحة الطبعة العربية أن أساتذته فى باريس عابوا عليه ظهور النزعة الوجدانية فى بحثه، فإن هذه النزعة قد ازدادت بروزا فى النسخة العربية، إذ أخذ كاتبنا راحته بعيدا عن أعين هؤلاء الأساتذة بعد عودته إلى أرض الوطن. ثم إن كثيرا من النقول التى أوردها كاتبنا فى النسخة العربية للاستشهاد بها على بعض السمات الأسلوبية المتعلقة بالمحسنات البديعية لا موضع لها فى الأصل الفرنسى. وهذا أمر طبيعى، إذ من المستحيل ترجمة هذه المحسنات إلى أية لغة أجنبية.

مما تقدم يتبين لنا أن كتاب “النثر الفنى فى القرن الرابع” ليس ترجمة للدراسة التى أحرز بها المؤلف درجة الدكتورية من جامعة باريس عام 1931م بقدر ما هى إعادة كتابة لها من جديد!
Ibrahim_awad9@yahoo.com

http://awad.phpnet.us/

http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9

أضف تعليق