هل تضع محكمة الحريري حداً للاغتيالات في العالم العربي؟د. فيصل القاسم

fisal-alqasim.jpgهل تضع محكمة الحريري حداً للاغتيالات في العالم العربي؟
د. فيصل القاسم

يروّج بعض المتحمسين للمحكمة الدولية الخاصة بعضو البرلمان اللبناني الراحل رفيق الحريري بأنها ستزرع الرعب في قلوب القتلة والمجرمين العرب، وستضع حداً للاغتيالات والتصفيات في المنطقة، وستكف أيدي أجهزة الأمن العربية التي تعبث بأرواح الناس كما لو كانوا مجرد صيصان، وستجعلها تفكر ألف مرة قبل الإقدام على أي عمليات قتل أو اغتيال ضد السياسيين أو الناس العاديين لأغراض سياسية. لكن أعتقد أن هؤلاء المتفائلين إما أن يكونوا ساذجين فعلاً، أو خبثاء يسوّقون تلك “الإيجابيات” المزعومة من أجل تمرير المحاكمة لمرة واحدة فقط لا غير لغاية سياسية عابرة.

على الذين يطبـّلون ويزمّرون للمحكمة كرادع طويل الأمد لاستباحة دماء الناس في العالم العربي أن يأخذوا بعين الاعتبار أن “العدالة” الغربية أو الدولية المزعومة موسمية جداً وانتقائية حسب الطلب والمصلحة، وتكاد تكون مثل قمر شباط لا تظهر إلا نادراً، ولأهداف محددة بدقة، ومن أجل جهات وأشخاص مختارين بعناية فائقة. وهو أمر يدركه جيداً القتلة والمجرمون الذين ترعاهم الأنظمة العربية.

ولو أردتم التعرف على ملامح “العدالة” الغربية فيما يخص القضايا العربية انظروا فقط إلى نوعية الأشخاص الذين تدافع عنهم منظمات حقوق الإنسان الغربية كـ”منظمة العفو الدولية” أو “هيومان رايتس ووتش”، فهاتان المنظمتان وغيرهما تركز اهتمامها على أفراد من نوعية معينة، وتتجاهل ألوف القضايا الأخرى. وقد حدثني بعض المغضوب عليهم في بعض الدول العربية الذين تعرضوا للتعذيب والملاحقة الأمنية أنهم بعثوا بعشرات الرسائل إلى منظمات حقوق الإنسان الغربية لعلها تدرج أسماءهم على قائمة الفائزين برعايتها ودفاعها، لكن لا حياة لمن تنادي، فلم يردوا على رسائلهم ومناشداتهم أبداً بالرغم من أن حالتهم تفوق سوءاً حالات الكثير من المساجين الذين صدّعت المنظمات العربية رؤوسنا بضرورة الإفراج عنهم.

إن أكثر ما يثير الدهشة والغرابة والسخرية أن منظمات حقوق الإنسان الغربية والدولية تختزل انتهاكات حقوق الإنسان في الدول العربية بعدد من سجناء الرأي الذين يُعدون على أصابع اليد الواحدة، مما يعطينا الانطباع بأن الأنظمة العربية غاية في الرأفة والتسامح. كيف لا وهي لا تعتقل في سجونها إلا بضعة سجناء رأي؟ واعتقد أن المنظمات الدولية تظلل الناس بهذا التركيز الممل على حالات معينة، لا بل تبييض سجل الحكومات العربية دون أن تدري. وهذا يؤكد تجربة السجناء المذكورين آنفاً الذين اتصلوا بالمنظمات الغربية عشرات المرات ولم تأبه بحالتهم، لأن حالتهم وحالة الألوف من أمثالهم لا تتطابق مع الشروط والمواصفات التي تضعها تلك المنظمات “الإنسانية” لتبني هذه القضية أو تلك. لكن هذا لا يعني أبداً أنني أحاول هنا التقليل من محنة الذين تختصهم المنظمات الدولية برعايتها. فهم جديرون بالتعاطف والتضامن بشرط أن لا يكونوا مجرد أحصنة طروادة، أو الشجرة التي تحجب الغابة.

إن السجون العربية يا منظمات حقوق الإنسان الدولية لا تؤوي في زنازينها وزرائبها الأمنية الفاشية مجرد ثلاثة أو أربعة كتاب أو نشطاء حقوقيين أو سياسيين أو أصحاب مدونات الكترونية، بل عشرات الألوف من المظاليم، وتسومهم عذاباً نازياً بامتياز. فأين هؤلاء الألوف من تقاريركم الموسمية؟ صدقوني أنكم تتآمرون مع الحكومات العربية في التغطية على انتهاكاتها التي يشيب لها الولدان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

وما ينطبق على منظمات حقوق الإنسان الدولية ينطبق على المحاكم الدولية كمحكمة الحريري، فلو تصدت المحاكم الدولية لبعض حالات الاغتيال والقتل التي حدثت في المنطقة بنفس الحماس والاهتمام الذي حظيت به قضية الحريري لباركنا تلك المحاكم، لكنها، كمنظمات حقوق الإنسان الدولية، انتقائية وسياسية بشكل مقزّز ومفضوح، وليس الهدف منها بأي حال من الأحوال كف أيدي القتلة والجزارين الذين يعبثون بأرواح الناس في منطقتنا العربية.

واعتقد أن أجهزة القتل والاغتيالات والتصفيات الجسدية في العالم العربي مرتاحة جداً ومطمئنة على مستقبلها حتى بعد محكمة الحريري. فهي تدرك أنها ستمضي في غيها تقتل هنا وتصفـّي هناك، ولن يهتز لها رمش مهما كانت نتيجة المحاكمة.

هل يستطيع المتحمسون لمحكمة الحريري أن يطمئنونا بأن الأجهزة العربية ستتوقف عن تعذيب الناس بشكل همجي في السجون حتى الموت خوفاً من عقاب مجلس الأمن الدولي؟ هل يستطيعون أن يؤكدوا لنا بأنها ستخشى على نفسها من الملاحقة الدولية إذا ما أقدمت على خطف أرواح الذين يهددون هذا النظام أو ذاك ورميهم وراء الشمس بخفة متناهية؟ هل يستطيعون أن يؤكدوا لنا أن أرواح الغلابة والمساكين والمغضوب عليهم في هذا العالم العربي الكبير أصبحت في مأمن من براثن القتلة والمجرمين المدربين في أقبية وزارات الداخلية على التصفيات والسحل بدم بارد؟

لا أعتقد للحظة واحدة أن المحكمة الدولية ستغير في الأمر شيئاً. وصدقوني أنه في الوقت الذي سيتداول فيه القضاة الدوليون في ملابسات وعقوبات قتلة الحريري سيكون هناك مئات العمليات البشعة التي تجري بالتزامن معها بعيداً عن الأضواء والاهتمام الدولي المزعوم. لكن هذا لا يعني انعدام الطرق لإرهاب السفاحين الرسميين وردعهم. وهذا هو موضوع مقال الأسبوع المقبل.

http://www.fkasim.com/content/view/1088/1/

أضف تعليق