دساتير وقوانين حمّالة أوجه

 

دساتير وقوانين حمّالة أوجه

عدنان كنفاني

درجت التجمعات البشرية منذ أقدم العصور، والتي تشكّلت فيما بعد في منظومة دول، على تنظيم سلوكها السياسي والاجتماعي بين دفتي كتاب أتفق على تسميته دستورا للدولة، ومجموعة تفاصيل وشروح اتفق على إطلاق تسمية قوانين ضابطة ومفسّرة لروح الدستور الأعم.

وليس أدل من الوصايا العشر، وشريعة حمورابي، والضوابط التي نزلت من السماء على ألسنة الأنبياء والكتب.. وهذا بالعام والعموم..

وقد تفتقت بعض الأدمغة البشرية على ابتكار وسن قوانين تحمل خصوصية المجتمع والدولة التي تنتمي إليها مجموعاتها البشرية، سواء في الأمر الداخلي التنظيمي والضابط والرابط، أو في الشأن الخارجي من خلال علاقتها بالآخر.

وقد انسحب هذا الأمر على مجتمعنا العربي، أو بالأدق على مجتمعاتنا العربية، التي خضعت لألوان وصنوف من الاحتلالات.. وترسّبت في أصول قوانيننا دون تغيير أو تطوير مواد قليلة أو كثيرة من قوانين عثمانية وفرنسية وبريطانية ما زالت تضبط الكثير من حركتنا في مجتمعاتنا المتلوّنة بأطياف من عبرها غازيا ومحتلاً، وفارضاً نفسه علينا من خلال قوانينه وتعليماته حتى الآن.

المفارقة أن في هذه القوانين حسب المزاج مساحات تبدو في ظل الأوضاع الحالية التي تمر بها منظقتنا العربية للتفسير على أوجه كثيرة، كما بعض الفتاوى “الدينية” التي تفصّل تفصيلاً على قد الخطاب السياسي تارة، وعلى ليّ أصل التشريع لتمرير رغبة مدعومة بالمال أو الجاه أو المنصب لتحليل الحرام، وفي أحايين أخرى لتحريم أحل الحلال.

ولو أتينا بأمثلة قريبة ومن ساحاتنا العربية تتطابق مع هذا المنظور، قد نفهم أصل المسألة.

في لبنان حكومة تعتلي سدّة الحكم، تقول المعارضة استنادا على مواد من الدستور والقوانين المفسّرة أنها غير شرعية.. وتقول الحكومة أنها وبناء على مواد من الدستور ومجموعة قوانين مفسّرة أنها هي الشرعية دون مواربة.

في فلسطين.. تقول السلطة “التي لا تملك أي سلطة على أي شيء” أنها تحلّ الحكومة، وتعلن أحكام الطوارئ، وتعلن عن قيام حكومة جديدة على قد خطابها السياسي الآتي من إملاءات خارجية ومعادية، وذلك استنادا إلى الدستور والقوانين المفسّرة، والصلاحيات التي تتمتع بها.. وتقول الحكومة أن سلوك السلطة وبناء على مواد من الدستور والقوانين المفسّرة غير شرعي..

في العراق.. يبدو أن الدستور والقانون هو فيما يقول ويقرر الأمريكان، وليس مهماً أبداً أصل التشريع العراقي.. ونتابع المتحمسين من العراقيين المتنصبين لمجاراة هذا السلوك.

في جنوب لبنان، المقاومة وحزب الله مجموعات من الإرهابيين ويستطيع المدّعون بذلك أن يجدوا في خفايا وزواريب القوانين ما يؤيد فكرهم..

أما في فلسطين ففرق الموت التي تواصل يوميا قتل القادة المناضلين والأبرياء من الفلسطينيين في عقور دورهم، والعملاء، والخونة، والعابثين بأقدار وقوت الشعب الفلسطيني فهم واستناداً لما يمكن تفسيره في القوانين نخبة وشرطة وقوات أمن ومتنفذين..

فهل يمكن أن تكون الدساتير والقوانين حمّالة أوجه..؟

أم أن شرعة الغابة تبقى هي الأساس في كل تعامل.؟

أم أن فروض القوّة هي الأبين للأحقيات.؟

بعد الإطلاع والدراسة والاستفادة من التاريخ ومظالم الشعوب، كانت على مرّ الوقت إمبراطورية بريطانيا التي لم تكن الشمس تغيب عنها هي صاحبة التفسير والتعليل في صواب دستور أو قانون له علاقة بمصالحها.

الآن مع تبدّل مواقع القوى العالمية أصبحت الولايات المتحدة، والولاية الـ 53 “إسرائيل” الأهم في تشكيلتها، ومجموعة “المعتدلين” هم المقررون الأعلون لأحقية أي دستور أو قانون.

ولو سأل أحدكم عن البرهان والدليل أقول.. بعد ما جرى في غزّة، وبعد الصبر المرّ الطويل، وبعد أن استنفذت كل الوسائل، بقي التصاعد العنفي، والفلتان الأمني سيد الموقف، وكان لا بد من حسم.. وجاء الحسم وبدأت تتكشف صوابيه هذا الحسم بالمجريات على الأرض، والانضباط وهدأة الأحوال..

وجاءت تصريحات المسؤولين في حماس واضحة لا تقبل التأويل ولا اللبس، ولعلّ أهم ما جاء فيها “إن حماس تمثل حركة تحرر وطني” ولن تفرض الوحش “الطالباني” على أحد، وإن ما جرى لم يكن يستهدف أي فصيل يضع نصب عينيه فلسطين، وأن الغاية كانت لضبط الأمن الداخلي وتصويب السلاح إلى الهدف الأساس الذي قامت التنظيمات والفصائل أساساً للتصدي له، وهو تحرير فلسطين المغتصبة وعودة الفلسطينيين المهجرين منها إليها.

فهل كان الرد من رجالات السلطة على قد المسؤولية الوطنية الفلسطينية.؟

خرج علينا البعض دون أن يطرف لهم جفن ولا تأخذهم حماسة القضية الأساس في كل ما نعمل، بعصبية حادة ليسفّه كل ما قيل، ولينسف مسبقاً دون دليل كل ما جاء من تصريحات علنية لقادة حماس..

والأنكى من ذلك.. تلك الماكينة الإعلامية الهادرة، والذيول التابعة لها من المصفقين والمطأطئين القادرين مجتمعين على قلب الأبيض إلى أسود، والقادرين بامتياز على اختلاق الأكاذيب، لتعلن بكل الصلف والجبروت تعميق الحصار على شعب غزة، ليصل الأمر إلى إعلان واضح من يهدد بقطع الماء والكهرباء عن السكان، وتعطيل الخدمات، وبكلمة قد تبدو هي الأصوب، هو إعلان فتوى للقتل الجماعي وتصفية عرقية لشعب مارس النضال على مسيرة قرن من الزمان.. وكل ذلك يستطيع أن ينبع ويتفاعل مع صوابية الدستور والقوانين.

الدساتير والقوانين في مجتمعاتنا الضعيفة والهزيلة، وقبالة الماكينة الإعلامية الجبارة، وانتفاع المنتفعين، وفوائد المستفيدين، ليست أكثر من خيط طويل مطاطي يمكن مدّه متى شاؤوا، ويمكنهم قطعه متى شاؤوا.

يبقى أن نقول بأننا لا نعتب على الأعداء المترصدين لنا السوء والهلاك، ولكن العتب كل العتب على أبناء جلدتنا الأقربين، وعلى المحيط الداعم لهم في سلوكهم الذي لا أستطيع وسط هذا السواد المطبق إلا أن أقول بأنه سلوك خياني.


أضف تعليق