الخزي الأكبر//بروفيسور عبد الستار قاسم

الخزي الأكبر

 

 

بروفيسور عبد الستار قاسم

 

19/حزيران/2007

 

 

أيهما أكثر خزيا وعارا: أن تكون طرفا في اقتتال داخلي وفتنة أم أن تكون متسولا صاحب يد سفلى؟ تتطلب الإجابة معرفة فلسفية واسعة ومعرفة بعلم النفس وقدرة على تحليل نفسية كل من المقتتل والمتسول. لا أظن أن عالما أو فيلسوفا سيجيز أيا من السلوكين، لكنه يمكن أن يفارق أو يمايز بينهما ليرى أيهما أكثر خزيا ومجلبة للعار والشنار.

 

بالنسبة للمقتتل، هناك احتمالات عدة وراء دخوله مسرح الاقتتال الداخلي الذي من المعروف أن نتيجته خسارة الأطراف المقتتلة، وخسارة الشعب الذي يدعي كل طرف بأنه يدافع عنه. قد يدخل المقتتل القتال دفاعا عن نفس، أو اعتداء على آخرين، أو كرد فعل على سلوكيات آخرين، أو بهدف تحقيق مصالح شخصية أو قبلية، الخ. تتعدد الأسباب، وتشير أغلبها إلى الخسة والدناءة والرذيلة والحقارة وضيق الأفق، وقد يكون من بينها ما يشير إلى نوع من الفضيلة أو الحمية أو الشجاعة أو الرغبة في تصحيح وضع قائم.

 

اختلاط الأمر في تقييم المقتتل ينتهي عندما تكون الفتنة عنصرا أساسيا في جلب الاقتتال. الفتنة تعني الفساد والإفساد بين الناس، وبث الكراهية والبغضاء فيما بينهم من خلال التحيز بكافة أشكاله وأكل المال والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة والاعتداء على الأعراض ونشر الظلم. المفتن هو من قال الله سبحانه في عمله “والفتنة أشد من القتل.” المفتن يقتل الناس جميعا من خلال بث العداوة فيما بينهم وسلب أمنهم ونشر الرعب والخوف في صفوفهم. ولهذا عقابه يجب أن يكون حاسما وسريعا وبلا تردد. لا يمكن أن تحتوي نفسية المفتن على فضيلة من أي نوع، بل هي منحطة وسافلة ووضيعة وحاقدة وبغيضة ولعينة.

 

إذا اجتمعت الفتنة والاقتتال فإن النتائج مدمرة، ولن ينجو أحد من آثارها الصعبة القاسية. إنما قد يكون داخل المجتمع من هو يرد الفعل على الفتنة فيشتد القتال وتنزف الدماء، وتصبح الحياة مليئة بالشرور والآلام، وينتشر الفاسدون القتلة ويجرون الناس إلى مزيد من الذل والهوان. طبعا لا بد من التمييز بين المفتن المقتتل وبين من يحاول القضاء على الفتنة، علما أن من يحاول القضاء على الفتنة قد يحيد عن جادة الصواب وقد يسيء التقدير.

 

عشنا نحن في فلسطين مراحل من الفتنة التي تميزت بسلب الأموال العامة والتحيز في الوظائف العامة والتعامل مع الأعداء، الخ، وتوّجنا ذلك باقتتال ألحق بنا الخزي والعار أمام أنفسنا وأمام كل العرب والمسلمين.

 

قد يبدو خزي الاقتتال صغيرا أمام خزي التسول. الأمر محسوم تماما بالنسبة للمتسول: إنه صاحب اليد السفلى الكسول المتواكل العاجز الذي يعيش طفيليا على خيرات الغير. المتسول وضيع ولا يرى نفسه إلا تحت أيدي الآخرين وتحت رحمتهم وعطفهم وشفقتهم، وهو يسخر نفسه لإهانات الغير وشتائمهم، ويتمنى بصاقهم في وجهه ليثبت ذله واستسلامه وخنوعه.

 

المتسول بلا فائدة لأحد حتى للذين يضعون في يده الفتات لأنه لا خير فيه لنفسه. إنه لا يستطيع حتى تقديم خدمات، لكنه يفتح الباب لكل البغاة ليعبثوا به وبأهل بيته كيفما يرون مناسبا. هؤلاء يلعبون به كيفما أرادوا ويقلبونه شمالا ويمينا وفق مصالحهم.

 

ولهذا كنت حريصا جدا عبر السنوات السالفة على نقل هذه الصورة للشعب الفلسطيني، محذرا بكل قوة من وضع لقمة خبزنا بأيدي أعدائنا، وقلت بأن من يعتمد على غيره في لقمة خبزه إنما يتخلى تماما عن إرادته السياسية لصالح الذي يمنح رغيف الخبز، وإن الذي لا يستطيع تدبير رغيف الخبز لنفسه لا يستحق الحياة، ولا يمكن أن تكون له حقوق. من لا يستطيع تدبير رغيف الخبز لا يمكن أن يعيد اللاجئين إلى فلسطين، ولا يمكن أن يقيم دولة حقيقية تعبر عن آمال الناس. وقد أوضحت هذا بأمثلة من تاريخ الأمم الأخرى.

 

كان هناك من وقف ليقول للشعب بأن الخبز أهم من الديمقراطية، وقد كتبت حينها ردا بعنوان “الأحرار يصنعون الخبز يا عباس.” إنها صاعقة مرعبة أن يتخلى قائد دولة عن الحرية لصالح رغيف خبز يرسله الأعداء لشعبه.

 

المأساة تتعمق الآن في التناحر بين فتح وحماس، وتحاول الرئاسة الفلسطينية أن تعد الناس باللبن والعسل لأن أهل الغرب قد استطاب لهم التمزق الفلسطيني. كنا نود أن نسمع تحريضا للشعب للتشمير عن السواعد وحمل الفؤوس وحرث الرض وزرعها من أجل أن نكون أحرارا، فأتتنا البشائر بأننا نصر على أن نبقى متسولين من أيدي الأعداء. التسول لا يصنع وحدة فلسطينية، ولا يقود غلى حرية ولا يؤسس دولة.

 

هب أهل الغرب وإسرائيل موحدين لدعم حكومة الطوارئ الفلسطينية. لماذا هذا الحماس؟ هل لهؤلاء الأوغاد القتلة الذين أعملوا القنابل والرصاص في رؤوسنا وصدورنا شفقة على شعب فلسطين، أم أنهم يريدون شراء فلسطين بلقمة خبز مسمومة؟ بريطانيا وأمريكا والصهاينة وأغلب الدول الغربية تآمرت علينا وطردتنا من وطننا، وهم يدسون الطعام في بطوننا ليسطلونا فنتخلى حتى عن المطالبة الشفوية بحقوقنا. لو كانت لدينا كرامة لما مددنا أيدينا للقتلة الدمويين. لا بارك الله لنا في هذه اللقمة.

 

في ظل هذه القيادات الفلسطينية، نحن ننتقل من خزي أصغر إلى خزي أكبر، وعلى مثقفي هذا الشعب أن يصرخوا عاليا عسى في صرختهم ما يفرض قيادات جديدة وأنماطا سلوكية فيها الحرية والعزة والكبرياء.

 

أضف تعليق