المقامة الحجرية/قصة قصيرة : حنان الأغا

ن�ت على ال�جر\خور روري

المقامة الحجرية
انتشر الخبر ، بل انفجر .. وحملت نثاره أشعة الشمس والنسمات الباردة ، وتلقته البيوت الطينية ببعض الحبور . اذ أن تراكمات الهموم وسنوات القهر جعلت الحذر والشك أول ما تبثه هذه العتبات المختبئة وراء الأشجار العتيقة ، والسلاسل المحملة بأغصان الكرمة اليابسة. عباس وصل . عباس رجع.
عباس وهو يحمل حقيبة أوراقه ، سمع صدى الصوت يندفع الى أذنيه في دفقات متلاحقة مع هبات الريح القادمة من جهة الغرب.. هو لا يكاد يذكر كم من السنوات غابت صورة هذه الأشجار وتلك البيوت عن ناظريه.
وضع عباس حقيبته على الأرض والتقط حجرا من تلك الحجارة الغريبة المسكونة بالزمن ، حجارة مخرمة كأنها جسد تلقى عشرات الطلقات فتكوم على نفسه بلا شكل محدد، أو قل كأنها جماجم التحمت معا فاختفت جل تفاصيلها وبقيت منه ا العيون المجوفة والأفواه الفاغرة .ولكن لم لا تحاول_ فكر عباس _ أن تنتقي الصورة الأجمل ، لم لا تقول أنها كنوز تعبق برائحة الزمن ، وتمتلىء بنسغ المكان؟ التاريخ والأجداد 6/والأرض الطيبة هم الذين زرعوا هذه الزيتونات التي تثقبت جذوعها كما الحجارة فأصبحت الواحدة منها مأوى لمخلوقات كثيرة متفاوتة في الحجم ومختلفة في النوع . لطالما أحب هذه الأشجار واتخذها ملاذا يقيه الصهد والعيون ، ولطالما جمع تلك الحجارة وبنى منها اشكالا كانت بمثابة ممتلكات خاصة به .. لم يكن حينها يعي ما تقترحه هذه الأشكال ولكنه _على أي حال_ كان يقف لساعات يتأملها ، بل كان يقاتل من أجلها أقرانه الذين كانوا يسخرون منها ومنه، وكان يكفي أن يمد أحدهم ساقه ويلكزها بقدمه حتى تنهار أمامه ، فيلهث عباس وراءه محاولا الأمساك به عبثا ، ويعود أدراجه ليبني من جديد والدموع تتجمد في مآقيه. سيبنيها ذات يوم وستكون له ، ملكه ، ولن يستطيع أي مخلوق أن يهدمها .
جلس عباس وهو ما زال يحمل الحجر بين راحتيه ، ثم استند بظهره الى واحدة من تلك الأشجار _ عجوز جاوزت المائتين_ وضع الحجر أمامه برفق كأنما هو رضيع يوسد مهدا ، ومسح بظهر يده دمعتين معلقتين بين أهدابه، وشرد بذهنه بعيدا ، هناك في تلك البلاد البعيدة المليئة بمقالع الرخام ، كان يرى الرجل يقسو على الحجر ، وكلما ازداد قسوة يعطيه الحجر من أعماقه الصلبة جمالا وكلما غاص أزميله في قلب الكتلة الحجرية كلما تفتق ذاك القلب حبا وابداعا!يا الله! كيف يكون هذا؟
لم يكن يجرؤ على فعل ذلك .. كيف يضرب الحجر وكيف يطعنه في القلب ؟ كيف يقابل حبه قتلا ؟ كان يذهب الى المقالع يوميا ويتخيل أشكاله المفترضة تنفصل ، وتنزلق من الكتل العملاقة وتقترب منه ، وتقترب. أكثر..أكثر فيخاف ويصرخ هاربا.
قال له الطبيب يوما أن مايكل انجيلو كان يرى اشخاصه قبل أن ينحتها تتحرك وتقفز من الكتل الهائلة ، وقال له في وقت آخر أنه سيصبح نحاتا عظيما مثله .. ابتسم عباس ، لم يكن الطبيب يعرف أن الحجارة هناك في قريته الجبلية الغافية في أحضان الضباب والتاريخ والزيتون ، لم يطعنها أزميل النحات وأنها تتطور وتتشكل وتتجسم وتتثقب دون أن تخضع لعمليات التعذيب . حجارتنا دافئة وحجارتكم صقيلة باردة.
قالوا انه مجنون . فهو ينحت الحجر بعينيه . مجنون . وتدافعت صور كثيرة أمام ناظريه وتقافزت إلى ذاكرته المضطربة أحداث هار بة من اسار الزمان والمكان . أمسك عباس حقيبته التي تحمل شهاداته الطبية المصدقة حسب الأصول .. نظر إليها طويلا ، ثم فتحها .كانت الريح قد اشتدت واهتزت لها أشجار الزيتون العتيقة ، طارت الأوراق وحملتها الريح وبعثرتها .. ربما وصل بعضها إلى حيث بيت العائلة ، هو لا يعرف .
نظر إلى حيث تأتي الريح من جهة الغرب وقد اتخذ قرارا بالسير هبوطا ،ثم صعودا وهبوطا مرة أخرى ليصل هناك حيث يتقدس الحجر، فهو المأوى والرغيف والسلاح ، يستسلم للأيدي الصغيرة وينفلق لها طوعا دون أزميل ، ومنه يتدفق شريان الحياة الآتية

فكرة واحدة على ”المقامة الحجرية/قصة قصيرة : حنان الأغا

أضف تعليق